مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة - فصة كفاح

مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة - فصة كفاح 
 
 

مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة - فصة كفاح
أشارت عليَّ زوجتي ـ ذات يوم ـ ببناء غرفة صغيرة فوق السطوح لتربية الطيور ، نظرا للزيادة المتصاعدة في أسعار اللحوم والدواجن ، وفي اليوم التالي سألت جاري الذي يعمل نجاراً وله من الخبرة الطويلة في أعمال البناء ، عما إذا كان يعرف أحد عمال البناء للقيام بالمهمة على أن يكون رحيما رءوفا في أتعابه التي سيتقاضاها نظير ذلك ، فتبسم ضاحكا وقال : أعرف واحدا من أمهر البناءين بالمنطقة ، ومع ذلك فأسعاره أرخص الأسعار مقارنة بنظرائه الآخرين .. فأومأت له برأسي بالموافقة ، وعلى الفور مدَّ يده في جيبه وأخرج منها هاتفه المحمول ، وهاتَفَ الرجل واتفق معه على موعد لاحق لن يخلفه .
وفي الموعد المحدد تنامى إلى مسامعي صوت دراجة بخارية تقترب من بابنا فألقيت نظرة من الشرفة ، فوجدت الرجل يهبط من فوق دراجته التي ملأت الدنيا ضجيجا بصوت المغني الذي لم أسمع له من قبل سميا ، وبدا لي أنه مطربه المفضل بدليل أنه كان يتمايل برأسه طربا وهو يردد معه كلمات الأغنية والتي لا تمت للغة العربية بصلة ، فهبطتُ الدرج لاستقباله فوجدته شابا يافعا يعلق بجانبه الأيمن من حزام وسطه شريط قياس الأطوال وعن يمينه هاتفه المحمول ، وتقدم نحوي مسرعا وهو يمدَّ يده مصافحا بقوة واحترام ، وتعلو وجهه ابتسامة عريضة متكلفة ، ولولا أنني لازلت محتفظا بقليل من القوة ، لجرني إليه وهو يصافحني ، ودعوته على الفور للصعود معا لمعاينة المكان ، وفوق السطح دس يده في جيبه وأخرج منها علبة سجائره المستوردة وتناول منها سيجارة وقدمها لي فاعتذرت لعدم التدخين ، فأشعلها وسحب منها نفسا عميقا ودفعه بقوة في الهواء ليملأ المكان دخانا كثيفا أسْعلت على إثره ، وطلب مني قلما وورقة لكتابة ما هو مطلوب إحضاره ، وفي دقائق معدودة كنت قد أحضرت قلما وورقة ، وبدأ يملي وأنا أكتب ، إلى أن وصلنا للاتفاق على الأتعاب ، فمكث قليلا ، وبعد أن أشعل سيجارة جديدة قال : لن نختلف ـ إن شاء الله ـ وما ستدفعه يكفيني . وأعرب لي عن امتنانه لمعرفتي ، أولاُ ، التي هي كنز لا يفنى .. أعدت عليه السؤال مرة أخرى ، فأجاب : ثلاثمائة جنيها فقط ، من أجل خاطرك وخاطر صديقي جارك ، فشعرت بدوار شديد كأنه لكمني على وجهي لكمة قوية ، وغارت ابتسامتي ووجدت ـ وقتئذ ـ معضلة كبيرة في بلع ريقي . وقلت له بصوت فيه نوع من التهدج : أهذا سعر نهائي ؟ فأقسم لي بأغلظ الأيمان أنه نهائي ولا مجال للتنزيل . فساد الصمت بيننا برهة ، وأبلغته بعدها بأنني سوف أفكر في الأمر وسأترك له خبرا عند صديقه ، فصافحني مودعا بابتسامة باهتة ..
وسألتني زوجتي على ما اتفقنا عليه ؟ فأبلغتها بما حصل ، فصكت وجهها وهي تشهق شهقة تعجب واستغراب ، وجلستُ على الأريكة وأنا أفكرمليا ، وبعد دقائق من التفكير اهتديت إلى أني قد قررت أن أقوم أنا ببناء الغرفة بنفسي ، ولم لا ... ؟! .. فالبناء ليس صعبا ، والشدائد تصنع الرجال ، والإصرار والعزيمة تجعل من المستحيل ممكنا ..وعزمت وتوكلت على الله .
وفي اليوم التالي اشتريت مواد البناء والطوب ، وبدأت أبني سطرا في الجدار الأول يلو سطر، وكلما أتممت بناء سطرا بنجاح أعطاني الثقة لإكمال ما يليه ، وهكذا ، إلى أن أتممت بناء الغرفة كاملة ـ بفضل الله تعالى ـ لأترك أفراد أسرتي وسط ذهول كبير ، وعانقني أبنائي مهنئين بنجاح المحاولة .. وعلموا جميعا أنه لا يأس مع الحياة ، ولا حياة مع اليأس .
 
بقلم : أحمد بدوى